كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن عباس: فلما أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى أخذوا الطريق الأعظم.
{وجاء رجل} أي: ممن يحب موسى عليه السلام واختلف في اسمه فقيل حزقيل مؤمن آل فرعون، وقيل شمعون وقيل شمعان، وكان ابن عمّ فرعون {من أقصى المدينة} أي: أبعدها مكانًا {يسعى} أي: يسرع في مشيه فأخذ طريقًا قريبًا حتى سبق إلى موسى فأخبره وأنذره حتى أخذ طريقًا آخر، فكأنه قيل فما قال الرجل له فقيل: {قال} مناديًا لموسى تعطفًا وإزالة للبس {يا موسى إنّ الملأ} أي: أشراف القبط الذين في أيديهم الحلّ والعقد لأنّ لهم القدرة على الأمر والنهي {يأتمرون بك} أي: يتشاورون في شأنك {ليقتلوك} حتى وصل حالهم في تشاورهم إلى أن كلًا منهم يأمر الآخر ويأنمر بأمره لأنهم سمعوا أنك قتلت صاحبهم {فاخرج} أي: من هذه المدينة ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرقه من احتمال عدم القتل لكونه عزيزًا عند الملك {إني لك من الناصحين} أي: الغريقين في نصحك.
{فخرج} أي: موسى عليه السلام مبادرًا {منها} أي: المدينة لما علم صدق قوله مما تحققه من القرائن حال كونه {خائفًا} على نفسه من آل فرعون {يترقب} أي: يكثر الإلتفات بإدارة رقبته في الجهات ينظر هل يتبعه أحد ثم دعا الله تعالى بأن {قال رب} أي: أيها المحسن إليّ بالنجاة وغير ذلك من وجوه البر {نجني} أي: خلصني {من القوم الظالمين} أي: الذين يضعون الأمور في غير مواضعها فيقتلون من لا يستحق القتل مع قوتهم فاستجاب الله تعالى دعاءه فوفقه لسلوك الطريق الأعظم نحو مدين فكان ذلك سبب نجاته، وذلك أنّ الذين انتدبوا إليه قطعوا بأنه لا يسلك الطريق الأكبر جريًا على عادة الخائفين الهاربين، وفي القصة أن فرعون لما بعث في طلبه قال اركبوا ثنيات الطريق فانبثوا فيما ظنوه يمينًا وشمالًا ففاتهم.
{ولما توجه} أي: أقبل بوجهه قاصدًا {تلقاء} أي: الطريق الذي يلاقي سالكه أرض {مدين} قال ابن عباس: خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى ومشى من غير معرفة فهداه الله تعالى إلى مدين، وقيل: وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وكان من بني إسرائيل سميت البلدة باسمه فخرج ولم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى، وقيل جاءه جبريل عليه السلام وعلمه الطريق، قال ابن اسحق: خرج من مصر إلى مدين خائفًا بلا زاد ولا ظهر وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر {قال عسى} أي: جدير وحقيق {ربي} أي: المحسن إليّ {أن يهديني سواء} أي: أعدل ووسط {السبيل} أي: الطريق الذي يطلعني الله تعالى عليها من غير اعوجاج وقال ذلك قبل أن يعرف الطريق إليها، قيل: فلما دعا جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين، قال المفسرون: خرج موسى من مصر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر والبقل حتى ترى خضرته في بطنه وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه، قال ابن عباس: وهو أوّل ابتلاء من الله تعالى لموسى عليه السلام {ولما ورد} أي: وصل {ماء مدين} وهو بئر كان يسقي منها الرعاة مواشيهم {وجد عليه} أي: الماء {أمّة} أي: جماعة كثيرة {من الناس} مختلفين {يسقون} أي: مواشيهم {ووجد من دونهم} أي: في مكان سواهم أسفل من مكانهم {امرأتين} عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنهما {تذودان} أي: تحبسان وتمنعان أغنامهما إذا فزعت من العطش إلى الماء حتى يفرغ الناس ويخلو لهما البئر، وقال الحسن: تكفان الغنم لئلا تختلط بغنم الناس، وقال قتادة: تكفان الناس عن أغنامهما، وقيل: لئلا يختلطن بالرجال، وقيل كانتا تذودان عن وجوههما نظر الناظرين لتسترهما، وقيل غير ذلك فكأنه قيل فما قال موسى لهما قيل {قال} لهما رحمة لهما {ما خطبكما} أي: ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس {قالتا لا نسقي} أي: مواشينا وحذف للعلم به {حتى يصدر} أي: ينصرف ويرجع {الرعاء} أي: عن الماء خوف الزحام فنسقي، وقرأ أبو عمرو وابن عامر: بفتح الياء وضم الدال، والباقون: بضم الياء وكسر الدال مضارع أصدر يعدى بالهمزة تنبيه: المفعول محذوف أي: يصدرون مواشيهم والرعاء جمع راع مثل تاجر وتجار، أي: نحن امرأتان لا يليق أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض {وأبونا شيخ كبير} أي: لا يستطيع لكبره أن يسقى فاضطررنا إلى ما ترى.
تنبيه:
اختلف في أبيهما، فقال مجاهد والضحاك والسدي والحسن: أبوهما هو شعيب النبيّ عليه السلام وإنه عاش عمرًا طويلًا بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام وتزوّج بابنته، وقال وهب وسعيد بن جبير: هو يثرون ابن أخي شعيب وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كف بصره فدفن بين المقام وزمزم، وقيل: رجل ممن آمن بشعيب قالوا فلما سمع موسى قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس، وقال ابن إسحاق: أنّ موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين، ويروى أن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر، وقيل: أربعون، وقيل: مائة فجاء موسى ورفع الحجر وحده وسقى غنم المرأتين ويقال: إنه سألهم دلوا من ماء فأعطوه دلوهم وقالوا اسق بها وكانت لا ينزعها إلا أربعون فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا فيه بالبركة فروى منه جميع الغنم، فإن قيل كيف ساغ لنبيّ الله تعالى شعيب أن يرضى لابنتيه الرعي بالماشية؟.
أجيب: بأن الناس اختلفوا فيه هل هو شعيب أو غيره، وإذا قلنا أنه هو كما عليه الأكثر فليس ذلك بمحظور فلا يأباه الدين، والناس مختلفون في ذلك بحسب المروءة وعادتهم فيها متباينة وأحوال العرب والبدو تباين أحوال العجم والحضر لاسيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة.
{فسقى} أي: موسى عليه السلام {لهما} والمفعول محذوف أي: غنمهما لما علم ضرورتهما انتهازًا لفرصة الأجر وكرم الخلق في مساعدة الضعيف مع ما به من النصب والجوع وسقوط خف القدم ولكنه رحمهما وأغاثهما وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوّة قلبه وقوّة ساعده وما آتاه الله تعالى من الفضل في متانة الفطرة ورصانة الجبلِّة {ثم تولى} أي: انصرف جاعلًا ظهره يلي ما كان يليه وجهه {إلى الظل} أي: ظل سمرة فجلس في ظلها ليقيل ويستريح مقبلًا على الخالق بعدما قضى من نصيحة الخلائق وهو جائع، قال الضحاك: لبث سبعة أيام لم يذق طعامًا إلا بقل الأرض {فقال رب إني} وأكد الافتقار بالالصاق باللام دون إلى بقوله: {لما أنزلت إليّ من خير} قليل أو كثير غث أو سمين {فقير} أي: محتاج سائل.
تنبيه: {لما أنزلت} متعلق بفقير قال الزمخشري عدَّى فقير باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب ويحتمل إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين وليس في الشكوى إلى الغني المطلق نقص، قال ابن عباس سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه، وقال الباقر: لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس لقد قال موسى ذلك وهو أكرم خلقه عليه وإنه كان قد بلغ به من الضر أن اخضرّ بطنه من أكل البقل وضعف حتى لصق بطنه الشريف بظهره وإنما قال ذلك في نفسه مع ربه وهو اللائق به، وقيل رفع به صوته لاستماع المرأتين وطلب الطعام وهذا لا يليق بموسى عليه السلام فانظر إلى هذا النبيّ عليه السلام وهو خلاصة ذلك الزمان ليكون لك في ذلك أسوة وتجعله إمامًا وقدوة وتقول ما لقي الأنبياء والصالحون من الضيق والأهوال في سجن الحياة الدنيا صونًا لهم منها وإكرامًا من ربهم عنها رفعة لدرجاتهم واستهانة لها وإن ظنه الجاهل المغرور على غير ذلك وفي القصة ترغيب في الخير وحث على المعاونة على البرّ وبعث على بذل المعروف مع الجهد فلما رجعتا إلى أبيهما سريعًا قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلًا صالحًا رحيمًا فسقى لنا أغنامنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي.
{فجاءته إحداهما} ممتثلة أمر أبيها وقوله: {تمشي} حال، وقوله: {على استحياء} حال أخرى، أي: مستحيية إما من جاءته وإما من تمشي قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ولكن جاءته مستترة وضعت كمّ درعها على وجهها استحياء ثم استأنف الإخبار بما تشوّف إليه السامع بقوله تعالى: {قالت} وأكدت إعلامًا بما لأبيها من الرغبة إلى لقائه {إن أبي} وصورت حاله بالمضارع بقولها {يدعوك ليجزيك} أي: يعطيك مكافأة لك لأن المكافأة من شيم الكرام {أجر ما سقيت لنا} أي: مواشينا، قال ابن إسحاق: اسم الكبرى صفورًا والصغرى لبنى، وقيل ليا، وقال غيره: صفرا وصفيرا، وقال الضحاك: صافورا، وقال الأكثرون: التي جاءت لموسى الكبرى، وقال الكلبيّ هي الصغرى، قال الرازي وليس في القرآن دلالة على شيء من هذه التفاصيل.
فإن قيل: في الآية إشكالات إحداها: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية فإن ذلك يورث التهمة العظيمة وقال صلى الله عليه وسلم «اتقوا مواضع التهم» وثانيها: أنه سقى أغنامهما تقرّبا إلى الله تعالى فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه وذلك غير جائز في الشريعة، وثالثها: أنه عرف فقرهما وفقر أبيهما وأنه عليه السلام كان في نهاية القوّة بحيث يمكنه الكسب بأقل سعي فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من الشيخ الفاني الفقير والمرأة الفقيرة، ورابعها: كيف يليق بالنبيّ شعيب عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون الرجل عفيفًا أو فاسقًا؟.
أجيب عن الأوّل: بأن الخبر يعمل فيه بقول المرأة فإن الخبر يعمل فيه بقول الواحد حرًّا كان أو عبدًا ذكرا كان أو أنثى وهي ما كانت مخبرة إلا عن أبيها وأما المشي مع المرأة بعد الاحتياط والتورّع فلا بأس به، وعن الثاني: بأن المرأة لما قالت ذلك لموسى عليه السلام ما ذهب إليهم طلبًا للأجرة بل للتبرّك بذلك الشيخ الكبير، لما روي أنه لما دخل على شعيب عليه السلام إذا هو بالعشاء مهيئًا فقال اجلس يا شاب فتعش فقال موسى أعوذ بالله فقال شعيب ولم ذلك ألست بجائع قال بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضًا لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضًا من الدنيا، وفي رواية لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ بالمعروف ثمنًا، فقال له شعيب لا والله يا شاب ولكنها عادتي وعادت آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى عليه السلام فأكل، وأيضًا فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ إلى حيث ما كان يطيق يحمله ففعل ذلك اضطرارًا وهو الجواب عن الثالث فإن الضرورات تبيح المحظورات، وعن الرابع: بأن شعيبًا عليه السلام كان يعلم طهارة ابنته وبرائتها إما بوحي أو بغيره فكان يأمن عليها قال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه: فقام يمشي والجارية أمامه فهبت الريح فوصفت ردفها فكره موسى عليه السلام أن يرى ذلك منها فقال لها امشي خلفي أو قال موسى أني من عنصر إبراهيم فكوني خلفي حتى لا يرفع الريح ثيابك فأرى ما لا يحلّ، وفي رواية كوني خلفي ودليني على الطريق برمي الحصا لأن صوت المرأة عورة.
فإن قيل: لِمْ خشى موسى عليه السلام أن يكون ذلك أجرة له على عمله ولم يكره مع الخضر عليه السلام ذلك حين قال لو شئت لتخذت عليه أجرًا؟
أجيب: بأن أخذ الأجرة على الصدقة لا يجوز، وأما الاستئجار ابتداء فغير مكروه {فلما جاءه} أي: موسى شعيبًا {وقص} أي: موسى عليه السلام {عليه} أي: شعيب عليه السلام {القصص} أي: حدّثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم لعباد الله تعالى.
تنبيه: القصص مصدر كالعلل سمى به المقصوص.
قال الضحاك: قال: له من أنت يا عبد الله، قال: أنا موسى بن عمران بن بصهر بن قاهت بن لاوي بن يعقوب عليه السلام وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي وأنهم يطلبونه ليقتلوه ثم إن شعيبًا عليه السلام أمنه بأن: {قال} له {لا تخف نجوت من القوم الظالمين} أي: فإن فرعون لا سلطان له بأرضنا، فإن قيل: أن المفسرين قالوا إن فرعون يوم ركب خلف موسى ركب في ألف ألف وستمائة ألف والملك الذي هذا شأنه كيف يعقل أن لا يكون في ملكه قرية على بعد ثمانية أيام؟
أجيب: بأن هذا ليس بمحال وإن كان نادرًا ولما أمنه واطمأن.
{قالت إحداهما} أي: المرأتين وهي التي دعته إلى أبيها مشيرة بالنداء بأداة البعد إلى استصغارها لنفسها وجلالة أبيها {يا أبت استأجره} أي: اتخذه أجيرًا ليرعى أغنامنا {إن خير مَنْ استأجرت القويّ الأمين} أي: خير من استعملت من قوي على العمل لشيء من الأشياء وأداء الأمانة، قال أبو حيان: وقولها قول حكيم جامع لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول استأجره لقوّته وأمانته، وإنما جعل خير من استأجرت اسمًا والقويّ الأمين خبرًا مع أن العكس أولى لأنّ العناية هي سبب التقديم، وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق بأن يكون خبرًا اسمًا، وورود الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف.